الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فهكذا يحمد الله، وهكذا يتوجه إليه، وهكذا يوصف سبحانه بصفاته، ويعترف له بآياته. وهكذا يتأدب في حقه العباد، وفي طليعتهم النبيون، ليكونوا أسوة للآخرين.ثم يعقب على القصة كلها، وما تتضمنه خطواتها من دلائل القدرة والحكمة: {إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين}..والابتلاء ألوان. ابتلاء للصبر. وابتلاء للشكر. وابتلاء للأجر. وابتلاء للتوجيه. وابتلاء للتأديب. وابتلاء للتمحيص. وابتلاء للتقويم.. وفي قصة نوح ألوان من الابتلاء له ولقومه ولأبنائه القادمين..ويمضي السياق يعرض مشهدًا آخر من مشاهد الرسالة الواحدة والتكذيب المكرور: {ثم أنشأنا من بعدهم قرنًا آخرين فأرسلنا فيهم رسولًا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرًا مثلكم إنكم إذًا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابًا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبًا وما نحن له بمؤمنين قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدًا للقوم الظالمين}..إن استعراض قصص الرسل في هذه السورة ليس للتقصي والتفصيل؛ إنما هو لتقرير الكلمة الواحدة التي جاء بها الجميع، والاستقبال الواحد الذي لقوه من الجميع. ومن ثم بدأ بذكر نوح عليه السلام ليحدد نقطة البدء؛ وانتهى بموسى وعيسى ليحدد النقطة الأخيرة قبل الرسالة الأخيرة. ولم يذكر الأسماء في وسط السلسلة الطويلة، كي يدل على تشابه حلقاتها بين البدء والنهاية. إنما ذكر الكلمة الواحدة في كل حلقة والاستقبال الواحد، لأن هذا هو المقصود.{ثم أنشأنا من بعدهم قرنًا آخرين}.. لم يحدد من هم. وهم على الأرجح عاد قوم هود..{فأرسلنا فيهم رسولًا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون}.. ذات الكلمة الواحدة التي قالها من قبله نوح. يحكيها بالألفاظ ذاتها، مع اختلاف اللغات التي كانت تتخاطب بها القرون!فماذا كان الجواب؟إنه الجواب ذاته على وجه التقريب: {وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرًا مثلكم إنكم إذًا لخاسرون}..فالاعتراض المكرور هو الاعتراض على بشرية الرسول. وهو الأعتراض الناشئ من انقطاع الصلة بين قلوب هؤلاء الكبراء المترفين، وبين النفخة العلوية التي تصل الإنسان بخالقه الكريم.والترف يفسد الفطرة، ويغلظ المشاعر، ويسد المنافذ، ويفقد القلوب تلك الحساسية المرهفة التي تتلقى وتتأثر وتستجيب. ومن هنا يحارب الإسلام الترف؛ ويقيم نظمه الاجتماعية على أساس لا يسمح للمترفين بالوجود في الجماعة المسلمة، لأنهم كالعفن يفسد ما حوله، حتى لينخر فيه السوس، ويسبح فيه الدود!ثم يزيد المترفون هنا إنكار البعث بعد الموت والبلى؛ ويعجبون من هذا الرسول الذي ينبئهم بهذا الأمر الغريب.{أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابًا وعظامًا أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين}..ومثل هؤلاء لا يمكن أن يدركوا حكمة الحياة الكبرى؛ ودقة التدبير في أطوارها للوصول بها إلى غايتها البعيدة. هذه الغاية التي لا تتحقق بكمالها في هذه الأرض. فالخير لا يلقى جزاءه الكامل في الحياة الدنيا.والشر كذلك. إنما يستكملان هذا الجزاء هنالك، حيث يصل المؤمنون الصالحون إلى قمة الحياة المثلى، التي لا خوف فيها ولا نصب، ولا تحول فيها ولا زوال- إلا أن يشاء الله- ويصل المرتكسون المنتكسون إلى درك الحياة السفلية التي تهدر فيها آدميتهم، ويرتدون فيها أحجارًا، أو كالأحجار!مثل هؤلاء لا يدركون هذه المعاني؛ ولا يستدلون من أطوار الحياة الأولى التي سبقت في السورة على أطوارها الأخيرة؛ ولا ينتبهون إلى أن القوة المدبرة لتلك الأطوار لا تقف بالحياة عند مرحلة الموت والبلى كما يظنون.. لذلك هم يستعجبون ويعجبون من ذلك الذي يعدهم أنهم مخرجون؛ ويستبعدون في جهالة أن ذلك يكون؛ ويجزمون في تبجح بأن ليس هنالك إلا حياة واحدة وموت واحد. يموت جيل ويحيا بعده جيل. فأما الذين ماتوا، وصاروا ترابًا وعظامًا، فهيهات هيهات الحياة لهم، كما يقول ذلك الرجل الغريب! وهيهات هيهات البعث الذي يعدهم به، وقد صاروا عظامًا ورفاتًا!ثم إنهم لا يقفون عند هذه الجهالة، والغفلة عن تدبر حكمة الحياة التي تكشف عنها أطوارها الأولى.. لا يقفون عند هذه الجهالة، إنما هم يتهمون رسولهم بالافتراء على الله. ولا يعرفون الله إلا في هذه اللحظة، ولهذا الغرض من اتهام الرسول: {إن هو إلا رجل افترى على الله كذبًا وما نحن له بمؤمنين}..عندئذ لم يجد الرسول إلا أن يستنصر ربه كما استنصره من قبله نوح. وبالعبارة ذاتها التي توجه بها إلى ربه نوح: {قال رب انصرني بما كذبون}..وعندئذ وقعت الاستجابة، بعد أن استوفى القوم أجلهم؛ ولم يعد فيهم خير يرجى بعد العناد والغفلة والتكذيب: {قال عما قليل ليصبحن نادمين}..ولكن حيث لا ينفع الندم، ولا يجدي المتاب: {فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء}..والغثاء ما يجرفه السيل من حشائش وأعشاب وأشياء مبعثرة، لا خير فيها، ولا قيمة لها، ولا رابط بينها.. وهؤلاء لما تخلوا عن الخصائص التي كرمهم الله بها، وغفلوا عن حكمة وجودهم في الحياة الدنيا، وقطعوا ما بينهم وبين الملأ الأعلى.. لم يبق فيهم ما يستحق التكريم؛ فإذا هم غثاء كغثاء السيل، ملقى بلا احتفال ولا اهتمام وذلك من فرائد التعبير القرآني الدقيق.ويزيدهم على هذه المهانة، الطرد من رحمة الله، والبعد عن اهتمام الناس: {فبعدًا للقوم الظالمين}..بعدًا في الحياة وفي الذكرى. في عالم الواقع وفي عالم الضمير..ويمضي السياق بعد ذلك في استعراض القرون: {ثم أنشأنا من بعدهم قرونًا آخرين ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضًا وجعلناهم أحاديث فبعدًا لقوم لا يؤمنون}. اهـ.
|